بقلم الدكتور/ زياد الصالح
- إن اعترافنا كل يوم بهذه الأحداث ، والوقائع المرة ، والأليمة التي جاءت كانعكاس لتلك الظواهر السلبية في ممارساتنا اليومية عبر الاكتفاء بنشرها على صدر الصحف الرسمية المحلية.. مؤشر بطريقة غير مباشرة في ظل تكرارها على مدى أعوام أننا نقف أمامها عاجزين في وضع الحلول لها ، والمعالجات الجذرية لاجتثاثها والتصدي لها..كما أدى اكتفاءنا بالنشر فقط لها إلى المساهمة في جعل المجتمع مجرد صدى يرددها في مجالسه ويصيح بأعلى صوته شاكياً منها..لكن بقي الحال كما هو دون البحث الحقيقي ، المعمق ، والجاد عن بناء ووضع مراجعة شاملة صادقة وأمينة داخلية لوضع الجهات المعنية بتلك الظواهر وبما وصل إليه الحال بهذا المجتمع..!! لماذا لا نبحث ابتداءاً من البيت والأسرة السعودية عن دورها المفترض في التربية وغرس القيم الأخلاقية لدى الأبناء ؟! وما هي أسباب الخلل في عدم قيام الأسر السعودية بأبسط دور وأول واجب مطلوب منها تجاه فلذات أكبادها كترسيخ الأخلاق والقيم الحميدة وتعزيزها داخل نفوس الأبناء ؟!
- واليوم ، أليس في تجاهلنا جميعاً لتضخم الأرقام ، والإحصائيات عن حقائق مفجعة في ممارسات أبناء لنا ، وأبناء لأقاربنا وأولاد لجيراننا.. ولدوا وترعرعوا في منازلنا ونشئوا على يد واقعنا الذي نرسمه ونسطره يومياً..أولاد يعيشون بيننا ومعنا لم يأتوا من كوكب آخر ، نراهم كل يوم في مناسباتنا الخاصة والعامة..لكن حين يأتي الليل جرائمهم لا تفارق أزقتنا وشوارعنا ومدننا وأحياءنا..فأين آباءهم ؟! وأين الأم المدرسة التي إذا أعددتها أعددت شعب طيب الأعراق..؟! وأين دور وتأثير إخواننا الأساتذة والمدرسين وتأثير دروسهم وحصصهم في التربية وتهذيب السلوك والأخلاق..؟! وأين دور المسجد وخطب الجمعة ؟! إن في تكبرنا وتجاهلنا عن ما آلت إليه أوضاعنا من أوجاع وآلام كتفشي لظواهر عديدة ، كالقتل للانتقام الشخصي من قبل المراهقين أو الانخراط في أعمال الإرهاب وجرائم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، و في السرقات، والاختطاف ، والمخدرات ، والفساد ، والتحرش بالفتيات في الأسواق وأثناء عودتهن للمنازل ، وفي انتشار المحسوبيات التي تتغلغل في فكرنا وشعورنا وممارستنا، وحتى في شجارات العائلات والأقارب والتي أصبحت لا تنقطع حتى مع غروب الشمس وسكون الليل. أما على صعيد الفساد الخلقي في المراحل العمرية المتقدمة فالنفاق الاجتماعي ، والغرور والغطرسة ، أو الرياء ، والإهمال والاستهتار بالعمل ، وتحمل المسئوليات واحترام النظام في كل مكان وزمان..فحدث ولا حرج !! إلى متى لا يتم إجراء مراجعة ومساءلة للمؤسسات الرسمية الوطنية المعنية عن انجازاتها في مواجهة ظواهر الانحلال "الأخلاقي"، و"التعصب"، و"التشدد"، و"الغلو"، و"التعنصر" ،..وغير ذلك من الظواهر السلبية المتعلقة بـ "الفكر"، و"الانتماء الوطني"، و"الولاء" لدى الفئة التي تمارس هذا التعصب أو الفئة التي تدعو لذلك الانفلات الأخلاقي ، والانحطاط الفكري والثقافي القيمي أياً كان نوعه ولصالح أي جهة كان..؟! فالأبناء يمضون وقتاً ليس بالهين في رحاب المدرسة وتحت رعاية وإشراف المدرسين !!
- هل يحق لنا أن نفسر عجزنا وسكوتنا عن العمل على معالجة مثل هذه الظواهر الاجتماعية السلبية يعود إلى عدم إمكانية حدوث تلاق بين التيارات ، والقوى الاجتماعية ذات التأثير داخل هذا المجتمع خصوصًا مع المتغيرات العصرية المتسارعة التي تفرز يومياً مثل تلك الظواهر..مما انعكس على الاتفاق والتوحد لوضع برنامجنا الوطني الخاص بنا لمعالجتها أو على الأقل اتفاق تلك القوى الاجتماعية على قيم ومبادئ أخلاقية تعتبر المساس بها من الخطوط الحمراء..؟! علماً بأن ما قصدته بالاتفاق ، والإجماع ، والتوحد لا يعني نفي (أو) إلغاء الذات الفردية (أو) حتى الكتل الاجتماعية..ولكنه يعني الإجماع والالتقاء في الخطوط العريضة التي تمس مصالح الوطن العليا..فحين يخص الأمر وحدة وأمن الوطن ، وسلامته من أي تشرذم داخلي أو تهديد خارجي ، وحينما يتعلق الأمر بمنجزاته ، ومسلماته ، ومعتقداته..يجب أن تتفق تلك القوى والتيارات داخل المجتمع ويجب أن تتخذ موقفاً تجاه أي سلوك دخيل على المجتمع له أبعاد تأثيرية تمس لحمة المجتمع ووحدته !!
- يعلم الجميع أن صياغة وبناء الأرضية المشتركة الصلبة ، ورسم الخطوط الحمراء بين كافة تيارات وقوى المجتمع هي مسئولية ما يعرف اليوم بـ (الحوار الوطني) الذي أنشأ على أثره (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) هذا المركز الذي جاء كدلالة على مدى إحساس واستشعار القيادة العليا السعودية بحاجة المجتمع السعودي للخروج من أزمة قد تستفحل ليستعصي على الجميع حلها إلا بتقديم تنازلات جسيمة وعميقة لصالح أطراف قد تهز كيانه حين تستقوي بالخارج..!! هذا المشروع الوطني مثله مثل غيره من المشاريع التي ظهر نتيجة لظرف استثنائي ، وأقصد هنا الأعمال الإرهابية والإجرامية التي تلت احتلال أمريكا للعراق على الاراض السعودية والخوف من أن هذا المفهوم مسيطر على القائمين عليه .. بينما أجد أن هذا (المشروع الوطني) من أهم المشاريع ، وأكثرها أهمية قد تضاهي أهمية وزارة الدفاع السعودية من حيث الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها لكن من الزاوية الفكرية والثقافية..والجميع يعلم معنى استقرار الجبهة الداخلية وتماسكها وترابطها وثباتها أمام أي أزمة أو أزمات تعصف بالدولة أو محيطها الخارجي ولكن السؤال : هل خطى هذا المشروع الخطوات المطلوبة منه في مشوار تحقيق الأهداف ؟! إنه مشروع تحقيق الوفاق الاجتماعي ، والتقارب الفكري ، والانسجام الوطني ، والتلاحم الضروري بين أفراد المجتمع..إنه مشروع إعادة التوازن لما ترى عدد من التيارات والمذهبيات أنه حق سُلب منها لصالح آخرين ، إنه مشروع يساعد على إيجاد التآلف الوطني بين (الفرد - والفرد) وبين (الفرد - ومؤسسات المجتمع الرسمية والمدنية) كما جاء ليعالج إشكالية الاستعلاء والإقصاء التي يعاني منها المجتمع..والسؤال الحقيقي عن مدى كفاءة وقدرة القائمين عليه في تحقيق تلك الأهداف - لا ينتقص الكاتب من كفاءتهم ولكن يلفت الانتباه إلى حجم المسئوليات والعقبات التي تواجه مثل هذا المشروع - وأخذنا نحن أبناء المجتمع إليها ؟! إنه سؤال حول ما إذا كان القائمين على (الحوار الوطني) يدركون مدى أهمية المشروع إدراكاً حقيقياً ؟! هل تصور القائمين عليه مدى حجم دوره في استقرار الدولة برمتها ؟! هل يشعر القائمين عليه إن من واجبهم انعكاس أهداف هذا المشروع على كافة أبناء المجتمع في كافة مفاصل ممارساتهم الحياتية ، وقناعاتهم الفكرية لكي نستطيع تجاوز تحدياتنا الخارجية الإقليمية والدولية والداخلية أيضاً ؟!
- حتى الآن نلاحظ أن القائمين عليه بوعي أو بدون وعي أبقوه حواراً محصوراً داخل قاعات وغرف الفنادق الخمسة نجوم بين أطراف نخبوية هي في الأصل أطراف المشكلة وصاحبة المواقف الملتبسة وان حدث ظهور إعلامي نلاحظ مدى استعراض هؤلاء بالتشدد والإصرار على مواقفهم..!! وهل أدى القائمين على (الحوار الوطني) الحد من التوجهات المغالية اليمينية أو اليسارية على الذين اقتصر عليهم هذا الحوار وأغلقت عليهم القاعات ؟! وهل حددوا لنا مفهوم الوسطية ووضعوا لنا طبيعة حدودها وأبعادها..على سبيل المثال فهي الموضة السائدة اليوم ؟! ثم هل عملوا على نشر الفكر الوسطي ، وتهيئة البيئة الاجتماعية ، والتعليمية ، والإعلامية له..؟! وهل يسروا كافة الوسائل والسبل لنشره بين أفراد المجتمع ؟! وهل وضعوا معايير تصنف الغلو والتطرف في الاتجاهات الفكرية والعقاب الجاد الممكن التطبيق تجاه دعاته ؟
- إنني لا أستطيع القول بأن القائمين عليه وفقوا بتأسيس أرضية مشتركة لتكوين ذات جماعية لهذه الكتل ، والقوى ، والتيارات المجتمعية التي أدت إلى تخبط السواد الأعظم من أبناء هذا المجتمع بين مواقف زعاماتها ذات التوجهات المتعارضة ، والمحكومة بتصورات وممارسات تاريخية لنزاعاتهم الفردية ، المعروفة بمواجهاتها وأساليبها المبنية على النفي ، والانتقاص ، والإقصاء ، والانعزالية لمن يختلف معها ويعادي أفكارها..!! كما أنني لا أستطيع القول بأنهم لم يوفقوا بتأسيس تلكم الأرضية المشتركة !! كما أنني على يقين بأنهم لم يستطيعوا بناء مؤسسات اجتماعية تعنى ببث ثقافة الحوار خارج تلك القاعات والغرف المغلقة تنزل لمستوى الشارع السعودي وأفراده..!! إضافة إلى أنهم لم يجعلوا التقارب الفكري ، والتلاقي الثقافي قضية وطنية ذات أولوية لدى أبناء المجتمع ، ومن ثم ممارستها في مؤسسات المجتمع المختلفة رسمية وغير رسمية أمر متفق عليه..!! إن الأمر ينبأ عن مستقبل خطير لمصير هذا المجتمع ومستقبله إذا لم يتحرك هذا (المركز) تجاه تحقيق أهدافه التي أنشأ من أجلها حرصاً على الدولة !! لابد لهذا المشروع الوطني أيضاً إن يؤطر القيم والمبادئ الأخلاقية في قواعد واضحة تتفق عليها كافة الأطراف والقوى الاجتماعية والتيارات الفكرية داخل هذا المجتمع..لا أعتقد أنه فعلها !!
- لابد لمن يتولى مثل هذا المشروع أن يكون مفكراً مبدعاً ذو منهج معروف بالتسامح والإخاء وليس محسوباً على إقليم أو منطقة معينة أو حتى جهة أو جماعة تمتلك قرار في الدولة..كما لابد أن يملك أولئك القائمين عليه رؤية دقيقة وواضحة لأفضل الطرق والسبل لقيادة هذا المشروع للوصول به إلى أهدافه المرسومة.
- إن إحدى المآخذ على القائمين عليه هي أن التصورات والرؤى والبيانات والقرارات التي يتوصل إليها المجتمعون يجب أن لا تكون مجرد حبر على الورق ، وان لا توضع في أدراج مكاتبهم الواقعة على طريق الدائري الشمالي.. بل يجب أن يبحثون عن كافة السبل لأن تترجم إلى ممارسة وسلوك يطبق على ارض الواقع ، ولو بالحدود الدنُيا لها لأن التدرج مهم .. كما يجب أن لا يركن القائمين على المركز بالعمل التقليدي البيروقراطي بل يجب البحث عن أساليب ، وطرق إبداعية للنزول بتلك البيانات وما لديهم من منتج ثقافي وفكري تم الإجماع عليه والتوصل إليه إلى الشارع السعودي.
- يجب أن يعي البعض من القائمين على هذا المشروع أن ركونهم على العلاقات الشخصية والقربى وأبناء الديرة من الأسماء والشخصيات القيادية الذين كانوا وراء تعيينهم وتوليهم لهذه المناصب في هذا المشروع حريصة على الوطن ومجتمعه أكثر من حرصها على بقاءهم في كراسيهم الدوارة ، وبالتالي إن إنتاج عمل صوري شكلاني موسوم عادة بالبحث عن الظهور والحضور في المناسبات والاحتفالات..لتسليط الأضواء عليهم لتحقيق منافع شخصانية ذاتية عبر توسيع دائرة المعارف والعلاقات للدخول كل يوم في وضمن "لجنة" من لجان مشاريع وطنية عملاقة مجالاتها وطبيعة اختصاصاتها لا تمت لهؤلاء بصلة..قد ولى..وأصبح أمرهم مفضوح.. بل هو مؤشر على الفراغ الداخلي وعدم الثقة بالذات..والخوف من المستقبل..والبحث عن كل قشة تحقق الاستقرار النفسي لهم..إن هؤلاء ملزمون بتحقيق الهدف السامي والوطني الضروري والملح اليوم قبل الغد لإيجاد مفهوم حقيقي للحوار بين كافة أبناء المجتمع السعودي فالمشاريع والمؤامرات المحيطة بنا داخلياً وخارجياً لا تعد ولا تحصى..إننا نتطلع إلى دور لهذا المركز أكثر توسع وانتشار من حيث التأثير والتغيير في مفاهيم اجتماعية هامة وخطير بقاءها بين أفراد هذا المجتمع.
وأخيراً..وبعد هذه المقدمة التي جاءت على حلقتين متتاليتين كان لابد منها أجدني مضطر للدخول مباشرة في مراجعة لبعض المواقف والمحطات التاريخية للوقوف على مسببات الخلل ومكامن التقصير التي أدت إلى وصولنا إلى هذه المرحلة المتقدمة المستعصية..من خلال عدد من الحلقات في خطوة تمردية ..خطوة خارج سياق لعن الظلام ، ودوامات البكاء على دوائر جوانب عديدة لواقع ظلامي مهيمن استسلمنا له..إنها خطوة من أجل مصلحة المجتمع العليا، وليس لمصلحة فردية متورطة بتبني توجه وتحزب لتيار ما لا يمكنها التراجع عنه خوفاً من السقوط إعلامياً أو اجتماعياً، وان جاء ذلك بكارثة لهذا المجتمع .
(وللحديث بقية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق